''ديمقراطية الحشيش'' -قصة قصيرة-
ا--------------------------------------------------ا
تشرف الشمس على المغيب.. الطقس رديء جدا هذا المساء.. تبدو المدينة الصغيرة موحشة..
يقف رجل فوق الرصيف المقابل لمبنى البلدية. مظهره الأنيق لا يتناسب أبدا مع ما يحيط به من أطلال وحفر يفترض أنها مبانٍ وشوارع، ولا مع رائحة النشاز التي تفوح من كل الأركان.
أعداد المارّين غفيرة، نصفهم من الغواني والمتسولين، والنصف الآخر يتخبطون خبط عشواء فوق الرصيف وعلى الإسفلت وهم يرسلون نظرات لامبالاة بدون عنوان، زومبي حقيقيون..
هدير محركات السيارات والدراجات لا يهدأ. يطلق السائقون المنبهات بشكل متواصل، وبما أن أصواتها لا تطفئ غضبهم يُتبِعونها بكل أنواع الشتيمة والسباب.
وكأن هذا لا يكفي تتنافس مجموعة من الغربان على النعيق فوق الرؤوس على مرأى من ثلّة من العصافير الذاهلة التي نسيت فن التغريد. وفي الجهة المقابلة تتناطح مجموعة من الأكباش التي أثملها الاقتيات على أصناف القمامة المنتشرة فوق بقعة أرضية تتوسط البنايات يُفترض أن نضالات الجمعيات المدنية اقتلعتها بصعوبة من بين أصابع مافيا العقار لجعلها متنفسا للناس الذين شغلهم الركض خلف كسرة خبز عن حقهم في نسمة هواء.
تلفّت الرجل يمينا ويسارا، لكنه لم يجد الناقلة السياحية الصغيرة التي أخبروه أنها ستقله إلى العاصمة بعد أن تعطّلت سيّارته الفارهة على غير العادة، وكأنها تعلن تضامنها مع كل الأشياء المعطلة في هذه المدينة المنسية التي لفظتها ذاكرة المسؤولين وخلت من اسمها أوراق مشاريعهم التي لم تصدق يوما.
داعبت مَناخِرَه في تلك اللحظة رائحة سجائر مُلَغَّمةٍ حشيشًا، لم يستطع منع نفسه من الشعور بالامتنان لنافثها، فَقَدْ رحمته من رائحة النشاز والعطانة المنبعثة ولو مؤقتا، ثم إن لرائحة دخان الحشيش قدرة عجيبة على بث الدفء في الأوصال، أو على الأقل هذا ما يحدث معه هو.. التفت إلى مصدر الدخان فطالعه منظر أربعة أشخاص يجلسون القرفصاء وظهورهم إلى الجدار وهم يناولون بعضهم سيجارتي حشيش بالتناوب. كانوا جميعهم شبانا، وبجوارهم تقف فتاة.
مرت نصف ساعة أخرى دون أن يظهر أيّ أثر للناقلة السياحية.. بدأ إحساسه بالتعب والغضب يتعاظم، اقترب من مكان وقوفه في هذه اللحظة رجل ذو لحية بيضاء خفيفة، راوده إحساس بأنه يتجه نحوه.
- السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. كيف حالك سيدي؟
كان إحساسه في محله، الرجل يبادره بالسلام. رد مرحبا:
- وعليكم السلام.. تعرفني سيدي؟
- نعم ومن يجهلك؟ أنت ''الكساب''، السياسي المعروف. حضرت محاضرتك حول ''الشباب والسياسة''. أقدم لك نفسي.. الشيخ ''الحساني''.. أنا مشارك معكم في مهرجان الشباب، قدمت محاضرتي بالأمس عن ''الشباب والدين''. أظننا سنتشارك الطريق. خيرا إن شاء الله.
وأخيرا حضرت الناقلة السياحية، تقدم الإثنان نحوها، حاولا الصعود فتفاجآ بالفتاة والشبان الأربعة وقد سبقوهم إلى المقاعد الأمامية.
- هل أنتم معنا؟ كنتم بالمؤتمر؟ خيرا إن شاء الله.
قالها الشيخ ''الحساني'' مُتَّخِذا مقعده إلى جوار ''الكساب'' في المقعدين الخلفيين. وبالكاد حصل على إجابة مقتضبة من الفتاة:
- نعم، كنا هناك ضمن الشباب المدعوين.
انطلقت الناقلة متجاوزة الزحام في طريقها إلى خارج المدينة، كان ''الكساب'' منزعجا من اهترائها، أنهكته اهتزازاتها المتواصلة، هو الذي تعود الاسترخاء في الأريكة الخلفية لسيارته الرياضية الفارهة. يتأكد في كل مرة أنه أخطأ بالمجيء إلى هنا. ولتمضية الوقت قرر أن يمارس ما يبرع فيه: الكلام..
- هل راقتكم المحاضرات؟
توقع أن يسقط عليه وابل من الإجابات المجاملة من الشباب، لكنه تفاجأ بصوت قداحة تشتعل تلاها ارتفاع سحابة دخان صغيرة. كرر سؤاله، فوصلته إجابة صادمة بنبرة أنثوية:
- لا نحتاج الإنصات لكم، لقد حاضرتمونا بأفعالكم. سنوات وأنتم تفعلون. رأينا محاضراتكم رأي العين. الانسانية والدين عندكم على المقاس.
حاول الشيخ تلطيف الأجواء، هرش ذقنه بصوت مسموع، حوقل وبسمل ثم قال:
- تريثي يا ابنتي! خيرا إن شاء الله.. لا يخلو الكلام من فائدة. لابد وأنكم قد استفدتم مما سمعتم.
أجابه هذه المرة شاب يجلس بمقدمة الناقلة بلسان ثقيل يرص الكلمات بعناء:
- نعم، ربما حصل هذا بعد سيجارة الحشيش الرابعة..
همهم ''الكساب'' منبِّها عندما ذُكر الحشيش، وكأنه ليس نفس الشخص الذي كان يستمتع برائحتها منذ قليل:
- أطفئوا السجائر من فضلكم. هذا لا يليق. إنه مناف للقانون.
سانده ''الحساني'' بقوله:
- لا يبارك الله جمعا كهذا، سترحل الملائكة.
تعاقبت الإجابات مع نفثات الدخان المُنَسَّم:
- فعلا، لقد رحلت الملائكة. لكن الشياطين أيضا رحلت، لم يعد لديها ما تفعله هنا، انتهت وظيفتها، سلَّمتكم مهامّها.
- لولا الحشيش لما تحمّلنا النظر إلى صوركم البشعة. نجوتم بسببه.
- الحشيش مظلووووووم.. أنتم أحقر وأخطر، سنقلع عنه بسهولة إذا اقتلعتم أنفسكم من الكراسي وتركتموها للأكفإ والأصلح.
- يصعب عليهم اقتلاعها، أصابتهم السمنة من كثرة الأكل. منذ عرفوا من أين تُأكل الكتف، وهُم يأكلون.
فبُهِت اللذان ائْتَمَرا وهما يشاهدان الانطلاقة الحقيقية لأشغال المؤتمر الشبابي بمحاضرة ''الشباب والحشيش'' التي ترِنّ في آذانهم.
توالت العبارات المتحاملة فبدأ ''الحساني'' يفقد صبره، قال بحنق:
- أخشى أن جيلكم فاقد لهويته. والله إنه الجنوح. ليس هذا ما أمرنا به الله.
أتاه الرد من الفتاة:
- إن لم يكن الله عز وجل في أفعالك، فلا تجعله عرضة أيمانك وأقوالك. أشهد أنّا ضالون وأنّكم سبب ضلالنا. تحمّلوا مسؤولية صنائعكم إذن.
تدخل ''الكساب'' وقد شعر في تلك اللحظة أن مُجريات الحوار قد تصب في صالح توجهاته، فهو المحنك الذي طالما حاضر عن جدلية الدين والسياسة وأسباب عزوف الشباب، وعن ضرورة رتق الهوّة بين الجيلين ضمانا لاستمرارية التنمية في بعدها الإنساني.
- صح أيتها الشابة.. لا لاستغلال الدين.. الدين أفيون الشعوب. حسبكم المبادئ الكونية.
من جديد، تتعاقب الإجابات مع نفثات الدخان الْمُنَسَّم:
- أفيون؟ لَمْ نكن لِنحتاج شراء الحشيش لو كان أفيونا.
- المبادئ؟ المبدأ ما كان مُنطلَقا ثابتا راسخا. أين الثابت الراسخ في كناش مبادئكم؟
- كونية؟ وهل شاورتم سكان المشتري وزحل؟
وفجأة صمت الجميع مع صوت الحشرجة الصادرة من محرك الناقلة التي توقفت تماما. خرج السائق ليلقي نظرة، ثم شاهده الجميع يجري محادثات بالهاتف قبل أن يعود إليهم ليخبرهم بأن العطل غير قابل للإصلاح وأن عليهم انتظار قرابة ثلاث ساعات لحين وصول من يقلهم. أراد ''الكساب'' التدخل لحل المشكل بشكل أسرع لكن السائق أثناه عن ذلك باعتبار أنه وإن تدَخَّل فلن تصلهم المساعدة في أقل من الساعات الثلاث، خصوصا وأنهم بعيدون عن كل الحواضر وأن ظلام الليل البارد يُطوّقهم.
لم يكن هناك بدٌّ من جلوسهم داخل الناقلة والانتظار. ولتحمُّل زمن الانتظار بدأت وسائل تمرير الوقت تُشْهر:
سُبحة، مشط وضفيرة، كتاب ''بؤس الفلسفة''، وأخيرا قدّاحتان وسيجارتان..
صرخ ''الحساني'' وقد فقد أعصابه تماما:
- المكان مغلق ونحن كثرة..ستذهب عقولنا ثم سنختنق بعدها. أطفئوا هذا القرف حالا!
أجابته الفتاة وكأن دورها يقتصر على مجادلته هو و''الكساب'' الذي تأفف ولوّح بذراعيه طاردا سحب الدخان:
- معكَ حق. لكن الحق هو ما يقرّه الجميع.
تلتفِتُ نحو ''الكساب'':
- أليس كذلك سيدي؟ ما رأيكم لو نلتم لأول مرة فرصة تطبيق النظريات التي تلوكونها في محاضراتكم؟ فلنمارس الديمقراطية ولو لِمرّة واحدة.
ثم أردفت:
- اسمعا! صِدْقا لسنا ضد أيّ أحد ولا أيّ توجه..لكننا ضد الاِدِّعاء.
التقط الشاب الجالس في المقدمة طرف الخيط وقد فطن إلى فكرة الفتاة، فعاد ليُجبِر لسانه على رصِّ الكلمات:
- لم لا نصوت لاتخاذ القرار؟ إليكم مشروع القانون موضوع التصويت: يسمح باستهلاك الحشيش باعتباره أُسقٍط دوليا من لائحة المواد الخطرة. ويعاقب كل من لم يمتثل للقانون الجديد.
عقب الشبان الآخرون بحماس:
-فلنصوت!!
-لنصوت!!
-نعم نعم نصوت!!
-فليرفع الموافقون أيديهم.
بينما عادت الفتاة لِتلتفِت إلى المقعدين الخلفيين موجهة كلامها إلى ''الكساب'' و''الحساني'' اللذين جلسا يضربان كفا بكف:
- الحقيقة أنّنا نحتاجكم أصفياء الذهن وواعين لتسمعونا. لكن لا يهم، لا ينقصكم الوعي بمآسينا، تنقصكم الذمم.
أتاهم في هذه اللحظة صوت مبحوح يزف القرار:
- صوت، صوتان، ثلاثة، أربعة، خمسة..إليكم النتيجة.. تم إقرار مشروع القانون الجديد بالأغلبية الساحقة.. تبا للممتنعين!! المجد لمساوئ الديمقراطية!! المجد لديمقراطية الحشيش!!
كاتب يملك كل مفاتيح الروعة والإدهاش.
ردحذف