الجمعة، 26 فبراير 2021

الكابوس.......السيد فريج

الكابوس 
قصة قصيرة
السيد فريج
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

في "محطة السوبرجيت" أنتظر الأوتوبيس المتجه من القاهرة إلى الأسكندرية .. درجة الحرارة مرتفعة والرطوبة النسبية عالية .. الجو خانق .. باقي أكثر من ساعة على موعد "الباص" .. على مقهى متواضع جلستُ أحتسي فنجان القهوة السادة الذي أعشقه .. على مقربةٍ مني مشهد لرجلٍ طويل القامة يقف مشدوداً له لُحيَّة خفيفة وشعر أشَيَّب يزيدهُ وقاراً .. ملامحه لا تُعبر عن شيّء وإنْ كانت توحي بأنَّه  طيِّب القلب متسامح .. بجواره تجلس على مقعدِ رخامٍ مُعَد لجلوسِ المسافرين سيدةٌ في الخمسين تقريباً ترتدي ثياباً بسيطةً في حشمة ، تغالِبُ دموعاً تَوَدُّ لو حبستها والحزن يكسو ملامحها .. شابٌ في بدايةِ العقد الثالث من العمر وفتاةٌ تصغرُهُ بأعوامٍ يقفان بجانبِ الرجل مُنْهَكيْن تطفو على وجهيهما صورةً نموذجيةً للإنكسار والمَذلَّة .. يبكيان في صمتٍ بدموعٍ كأنَّها نهرٌ متدفقٌ من عيونٍ ذابلةٍ ينظران إلى بعيد وكأنَّهُما ينتظران حَدَثاً صادماً يتوقعانه ولا يأملانه .. الرجلُ يحملُ لافتةً يرفعُها أعلى رأسِه ، دفعني الفضول لأقرأها فالمشهد كلُّه غامض .. تحركتُ من مقعدي وذهبتُ حيثُ تُمكِنُني الرؤيةُ من القراءة .. كلماتٌ قاتلةٌ تحملُ آلامَ الكوْنِ تندفعُ في وجهي كأنَّها سهامُ الموْتِ تخترقُ قلبي وأكادُ أنْ أقعَ مَغشياً علىَّ ( رجلٌ للبيْعِ ) هكذا ، كلمتان فقط أقتربُ أكثر .. أربتُ على كتفِ الرجل والذي بادرني بابتسامةِ القتيل .. تحت أمرك .. السيدة تتعلق بيَّدِ الرجل تُقبِّلُها ترجوه أنْ يَصْرِفَ نَظَرَ ويُقلِعُ عن هذا الأمرِ والشابُ والفتاةُ يبكيان في صمتٍ ويُقَبِّلان رأسَ الرجلِ .. "بابا" نرجوك .. والرجلُ يَعرِضُ بضاعتَهُ في إصرار .. "نعم يافندم تحت أمرك ".. أبكي وأربتُ على كتفِه وقد فقدتُ القدرةَ على الكلامِ وكنتُ خامسَهم في المشهدِ المَهيب .. يتقدمُ شابٌ وسيمٌ منَّا وبعباراتٍ بسيطةٍ تخلو من المشاعرِ أو حتى ترتيبِ الكلام .. يسألُه أنتَ ياسيِّد أمْ مَنْ تبيع ويردُّ بعجلةٍ وقد آلمتَهُ  كلماتُ الشابِ .. "أنا …أنا"  ، هؤلاء ليسوا للبيْعِ ، الحاجة سعديَّة زوجتي والدكتور أحمد إبني طالب في كليةِ الطب وحنان أخته بكلية الصيدلة يتحدثُ بفخرٍ ..أنا للبيْع ياسيِّدى .. أتستطيع أنْ تغسلَ السياراتِ وتكنُسُ الجراجَ ومَدْخَلَ العمارةِ والسُلم .. نعم سيِّدي فأنا في صحةٍ جيدةٍ .. نبكي نحنُ الأربعة بحرقة .. صامتون … الرجلُ كلماتِه واثقة لا يهتز .. ليْس فقط ، أنت ستقضي طلبات الهانم والأولاد وتحرسُ العمارةَ .. سيِّدي سأكون مِلكَكَ أفعلُ ما تأمرُني به .. إذنْ سأدفعُ خمسين الفاً .. وينظرُ الرجلُ إلى زوجتِهِ وإبنه وإبنته ولِي كَمَنْ يستطلعُ رأيّاً .. نبكي .. لا بأس سأدفعُ ستينَ الفاً .. مُوافق سيِّدي .. لِمَنْ أُحَرِرُ الشيك .. لزوجتي .. إذنْ أعطِيني بطاقتَكِ عزيزتي ، وبطاقتَكَ أيضاً .. يَطَّلِعُ عليها .. لا ..  لا تصلح .. سيِّدي لا تهتم بالسنِّ المكتوب أنا بصحةٍ جيدة .. عزيزى مُدَوَّن "مدير عام" بالمعاش .. لدَيَّا فكرة جيدة سيِّدي وكنتُ أعملُ بعد انتهاء الدوام .. جَرِّبني أُسبوعاً ثم سَدِدْ الثمنَ .. أعطني دقائقَ للتفكير .. لابأس .. صامتين نبكي .. الشابُ يجلسُ وعيوننا معلَّقةٌ بِه .. يُخْرِجُ دفترَ شيكاتٍ من جيّبِه .. يبتسمُ الرجلُ ونبكي بحرارةٍ أقصدُ بمرارة .. الشابُ يُسَدِدُ بياناتِ الشيك .. الرجل يقول الحمد لله "ياما إنتَ كريم يارب"  .. الشاب يُخرِجُ مظروفاً يضع فيه الشيك ويكتبُ عليّه من الخارج .. ربما قيمة الشيك .. الرجل يبتسم .. البكاءُ يتحوَّلُ إلى نحيب .. نتوسلُ للرجلِ أنْ يرجعَ عن قرارِه .. وهو يقبِّلُنا وتتحولُ بسمتُهُ إلى بكاءٍ صامتٍ ونهرِ دموع .. يعودُ الشابُ .. يُسَلِّمُ السيدةَ الشيك والبطاقة .. الرجل يُخَلِصُ نفسَه من أسرتِه .. هيَّا بنا سيِّدي .. الشابُ يُقَبِّلُ رأسَه ويقول .. عمي هذه هَديةً لكم ومُدَوَّن على المظروف عنواني وأنا تحتَ أمرِكُم .. سيِّدي نحن لا نتسَوَّل .. عزيزي هذا قرض للدكتور والدكتورة حين ينهيان تعليمهما يسددانه .. نبكي … الرجلُ لا يقوَى على الوقوفِ يجلسُ  ، وينحني الشابُّ ويسحبُ يدَه يُقَبِّلُها ويختفي في برهةٍ واحدةٍ وقد استقلَّ الأوتوبيس المتجه إلى أسيوط .. وأُقَبِّلُ يَدَّ الرجلِ وأودِّعُهم باكياً وأنصرف .. ويبقى المشهدُ يطفو على ذاكرتي لسنواتٍ أبحثُ عنهم ولا أُوَفَّقُ في العثورِ عليّهِم والألمُ يعتصرُ قلبي وصوَّرُهم لا تفارقني في النومِ واليقظةِ وقد أصبحَت كابوساً مرعباً فأنا مثلُهم فقير  ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق