_ الكيسُ الماطرْ _
________
انسكبَ كأسُ الشاي فجأةً من بين يديّ المرأة العجوز ، حركةٌ اهتزازيةٌ ضعيفة كانت كافية لكي تُحدِثَ جلجلة في قعرِ الغرفة ...
البيتُ يقبعُ على طرفِ القرية الجنوبي ، يبدو للتوّ بأنّه يتيماً ، لكنّ المساء يُعلنُ وجود أشقاء له لا يبعدون كثيراً ، تُحيطُ بهِ ثُلّة من أشجار المُشمش والدراق والكرز ، وخلفها ترنو شجيرات السرو بشكلٍ متناسقٍ كخصرِ امرأةٍ لم تبلُغَ الأربعينَ بعد ، التلّةُ القريبةُ تُطِلُّ برأسها غير آبهة بما يجري داخل النهر المجاور ، حتى طيور السنونو تأتي إليها كل مساء ، فتحتسي بعض النور ثُمّ تمضي .
- ما بالك يا امرأة ... علامَ تنظرين ...
- انظر إلى هناك يا رجل ... وكأنّ شبح ما يلوحُ خلف التلّة ...
- يالكِ من امرأةٍ عجوز ... يبدو بأنّ العمر بدأ يأخذ منك ما تبقى (.....) قهقه الرجلُ ساخراً , صمتت المرأة قليلاً ، لكنها كانت تعاند سخونة كبيرة في داخلها ، الرجل الثمانيني يُشعِلُ سيجارةً من علبةٍ نحاسية ، يراقب الدٌخان المتصاعد صوبَ سقف غرفةٍ أكلتها السنون ، هو الآخر آثرَ الصمت ، وما لبِثَ أن خرجَ على عجل ...
- انظر يا بني ... انظر ... ألا ترى شيئاً ما عند التلّة !!! ...
- دعيني أرى من شرفة المنزل يا أماهُ ... فرُبّما كانت هناك الرؤيا أكثرَ وضوحاً ...
أمعن الفتى العشريني النظرَ إلى المكان الذي أشارت إليهِ الأمّ العجوز ، نيرانُ المساء تُطلقُ ألسنةَ لهيبها فَتضفي غشاوةً على المشهد ، سِرْبُ الطيور يمرُّ من أمام البيت ، مداعباتٌ تدورُ على مُقربةٍ منه .
- حتى الطيور تعرِفُ معنى اللهو و (...) ، ورُبّما الحبُّ أيضاً ... قال الفتى لنفسهِ .
دقائقُ تمضي وهو مازال على ضفافِ الشُرفة ، لمعتْ عيناهُ للحظةٍ ، اِنقلبَ إلى الداخل ...
- نعم ... نعم يا أمي ... هناك شيء ما ... وكأنّه رجلٌ يحملُ كيساً ...
- ماذا عساه يفعلُ هنا في هذا الوقت ذلك الرجل يا بني ...
- لا أدري ... لكني سأذهبُ وأرى ...
- لا ... لا تذهب فالليل بدأ يحطّ رحاله ، أخشى عليك منه ...
- لا تخافي يا أمي ... سأصطحبُ البندقية معي ...
عندما تفوّه بآخر كلمةٍ كانت قدماه قد أمستا خارجاً ، بينما الأبُ كان يُشعلُ سيجارة أخرى من علبته الصدئة ( ويبتسمُ ) ، نظر إلى ابنه وهو يُغادر البيت ، لكنّهُ لم ينبس بأيّ حرف ...
الدربُ إلى التلّةِ عبارة عن ( مداسٍ ) يتعرّجُ كأفعى أصابتها الشمسُ بحرارتها عند الظهيرة ، الريحُ تزأرُ أكثرَ , وأكثرْ ، القمرُ لم يظهر في تلك الأمسية ، لعلّهُ يسهرُ في مكانٍ ما قبل أن يعود إلى بيته , أو أن الغيمة العابرة للطريقِ السماوي منعته من التأنق هذا المساء ...
اقتربَ الفتى من ذلك المكان ، كان يتوارى خلف بعض الأشواك البرّية كي لا يراه الرجل الذي مازالَ شبحاً بنظرهِ ، أصبحتْ المسافة لا تتعدى الأمتار ، الرصاصةُ تقطنُ بيتَ النار ، تُجهّزُ نفسها لوليمة مُبهمة , لم يعد يسمع حتى زفيرهُ ، فقد أنصتَ بحواسهِ الستةْ ...
الغشاوةُ تهجرُ عينَ الفتى ، المشهدُ القريبُ جداً أصبحَ في مُتناوله ، اِسترقَ السمع أكثر ، الرجلُ يُحدِّثُ نفسهُ بكلماتٍ لم يفهمها ، داهمهُ العُطاسُ فجأةً ، لم يكن بمقدوره إخفاء الصوت ، تخلخلتْ جلسةُ الرجل ، نظرَ حولهُ ، عرف بأنّ هُناكَ مَنْ يُراقبهُ , ويراه ، دَسَّ شيئاً ما في الكيس ، ربطهُ بسرعةٍ ثُمّ رماه نحو كومة شوكٍ , وولى هارباً ...
كانَ الكيسُ ساخناً جداً ، ينبعثُ منهُ أنينٌ خافت ، حملهُ الفتى وعادَ مُهرولاً نحو البيت , نظراتُ الأب لم تفارقه للحظة , بينما الأمّ العجوز تبتهلُ في سرّها .
على ثغرِ الشُرفة الخشبية كان الرجلُ وزوجته ( العجوز ) كما اسماها قبل قليلٍ يُراقبان , وينتظران ...
رمى إليهما بالكيس ، لهاثهُ يُسابِقُ الريح العابثة بأوراقِ الشجر ، فتحَ الرجلُ المُسنُّ (العجوز) الكيس ، السكون يخيُّم على الجميع ، البرقُ ينيرُ المكانَ , ويختفي ، السماءُ ليستْ صافيةً كالعادة , نظرَ الرجلُ إلى امرأتهِ ، تحدٍّ من نوعٍ آخرَ بينَ النظرات المُتبادلةْ ... تحركت شفتاه الغليظتان تحت وطأة التحدي ...
- سوفَ تُمطِرُ يا امرأة ... سوفَ تُمطرْ ...
________
وليد.ع.العايش
19/3/2019م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق