الثلاثاء، 19 فبراير 2019

اللغة العربية: إبداع وإمتاع وإقناع....الشاعرمحمد أبو رزق

اللّغة العربية: إبداع وإمتاع وإقناع
علم البديع
دروس مهمّة لكل شاعر وكاتب وأديب
الدرس الثاني والعشرون (22)
الإستدراك
الإستدراك - هو رفع توهم يتولد من الكلام السابق رفعاً شبيهاً بالاستثناء، وهو معنى لكن.
ويشترط فيه هنا زيادة نكتة طريفة على معنى الاستدراك، لتحسنه وتدخله في البديع، وإلا فلا يعد منه.
والإستدراك على قسمين:
قسم يتقدم الإستدراكَ فيه تقريرٌ لما أخبرَ به المتكلم وتوكيد،
وقسم لا يتقدمه ذلك.
فمن أمثلة القسم الأول:
 قول ابن الرومي : [من الوافر]
وإخوانٌ تَخِذتهم دروعا **** فكانوها ولكن للأعادي
وخِلتهم سهاما صائبات **** فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب **** لقد صدقوا ولكن من ودادي
فإنه قرّر صفاء قلوبهم وأكّده بقوله صدقوا ثم عاد فاستدرك ذلك بتنكيت دعواهم وأنهم على عكس ذلك ممّا يُتوهم.
وقال ابن أبي الأصبع لم أسمع في هذا الباب أحسن من قول ابن دويدة المغربي يخاطب رجلا أودع بعض القضاة مالا فادّعى القاضي ضياعه وهو: [من الكامل]
إن قال قد ضاعت فيصدق أنها **** ضاعت ولكن منك يعني لو تعي
أو قال قد وقعت فيصدق أنها **** وقعت ولكن منه أحسن موقع
وممن تلطف في هذا الباب وأجاد للغاية القاضي الأرجاني بقوله: [من الرمل]
غالطتني إذ كستْ جسمي ضنىً **** كسوةً أعرت من اللحم العظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى **** مثل عيني صدقت لكن سقاما
فإنه قرر ما أخبرت به من قولها أنت عندي في الهوى مثل عيني ثم أكد بقوله صدقت ثم نكت بالزيادة على معنى الاستدراك التنكيت الذي يتطفل النسيم على رقته ولولاه ما سكن هذا النوع بيتا بديعيا ولا تأهل بعد غربته
ولقد أحسن القائل في شكوى الزمان بقوله: [ من الطويل]
ولي فرس من نسل أعوج سابقٌ **** ولكن على قدر الشعير يحمحم
وأقسمُ ما قصّرتُ فيما يزيدني **** عُلوّاً ولكن عند من أتقدّمُ
ومنه قول ابن أبي حجلة:
شكوت إلى الحبيبة سوء حظي **** وما ألقه من ألم البعادِ
فقالت أنت حظك مثل عيني **** فقلت نعم ولكن في السواد
وقول ابن حجلة أيضا:
رؤساء ما من جاءهم بقصيدة **** كانت جوائزهم عليها شكرهُ
وإذا طلبت وظيفة من قائم **** فأبشر فقد ولّاك ولكن ظهرهُ
وقول بعض الحنابلة:
يحجّون بالمال الذي يجمعونه **** حراماً إلى البيت العتيق الحرامِ
ويزعم كل أن تُحطَّ ذنوبهم **** تُحطُّ ولكن فوقهم في جهنم
وقول هبة الله بن سناء الملك:
أسر لطول أسري في يديه **** فيغضب إذ أسر لطول أسري
سألت الله أن يبلى بعشقٍ **** فأصبح عاشقاً لكن لهجري
وهذه كلها شواهد القسم الأول من الاستدراك

وأما شواهد القسم الثاني:
 وهو الذي لا يتقدم الإستدراك فيه تقرير ولا توكيد مثل قول زهير: [من الطويل]
أخو ثقة لا يُهلِك الخمرُ مالَه **** ولكنه قد يُهلِك المالَ نائلُه
ولا يخفى على الذوق السليم ما في بيت زهير من الزيادة على معنى الاستدراك بقوله: ولكنه قد يهلك المال نائله
فإنه لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ماله موفور وتلك صفة ذم فاستدرك ما يزيل هذا الاحتمال ويخلص الكلام للمدح المحض. علما أن الإستدراك في بيته لم يسبقه تقرير أو تأكيد كما في أمثلة القسم الأول.
ومنه قول المعري:
فيا دارها بالحَزَنِ إن مزارها **** قريب ولكن دون ذلك أهوالُ
ولا يخفى ما في هذا الاستدراك من الحسن والنكتة الزائدة على الاستدراك، ولم يسبقه تقرير أو تأكيد
ومثله قول العلامة محمد الشامي:
قسَّمتُ صفايا الودّ بيني وبينه **** سواء ولكني حفظت وضَيَّعا

وأصحاب البديعيات نسجوا على منوال القسم الأول ولم يتعرّضوا للقسم الثاني.
والشيخ صفي الدين حلا في هذا المنهل الصافي مورده وعلا في هذا السلك البديعي منظمه ومنضده وبيته: [من البسيط]
رجوتُ أن يرجِعوا يوما وقد رجعُوا **** عند العتاب ولكن عن وفا ذممي
فإنه قرر ما أخبر به قبل الاستدراك وأكده بقوله وقد رجعوا وفي قوله عند العتاب تكميل بديعي
وبيت إبن حجة الحموي:[من البسيط]
قالوا نرى لك لحما بعد فُرقتنا **** فقلت مستدركا لكن على وضم
ــ الوضم خشبة الجزار التي يقطع عليها اللحم ــ
وبيت بديعية ابن معصوم قوله:
أملت عودهم بعد العتاب وقد *** عادوا ولكن إلى استدراك صدّهمِ
المصادر:
كتاب البديع في البديع لابن المعتز ت247ه
العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق القيرواني ت390ه
زهر الآداب للحصري القيرواني ت453ه
خزانة الأدب لابن حجة الحموي ت837ه
أنوار الربيع في أنواع البديع لابن معصوم الحسني ت1119ه
جمع وإعداد وتقديم: محمد أبورزق
يُتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق