اللغة العربية: إبداع وإمتاع وإقناع
علم البديع
دروس مهمة لكل شاعر وكاتب وأديب
الدرس الرابع والعشرون (24)
[ اللّفُّ والنَّشْرُ ]
وسمّاه بعضهم: الطّيُّ والنشر،
اللف والنشر هو أن تذكر متعدداً، إما تفصيلاً بالنص على كل واحد أو إجمالاً، بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد، وهذا هو اللف. ثم تذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد يرجع إلى واحد من المتقدم من غير تعيين، مدركا بأن السامع يرد كل واحد إلى ما يليق به، وهذا هو النشر.
وهو نوعان:
1) ذكر المتعدّد تفصيلا:
2) ذكر المتعدّد إجمالا
فالنوع الأول وهو ذكر المتعدد تفصيلاً قسمان:
القسم الأول : ما كان النشر فيه على ترتيب اللف، بأن يكون الأول من النشر للأول من اللف، والثاني للثاني، وهكذا على الترتيب، وهذا الضرب هو الأكثر في هذا النوع والأشهر فيه، ومثاله قوله تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) ذكر الليل والنهار على التفصيل، ثم ذكر ما لليل وهو السكون فيه، وما للنهار وهو الابتغاء من فضل الله على الترتيب..
فكأنه سبحانه يريد أن يقول : ومن رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، والنهار لتبتغوا من فضله، لكنه ذكر الليل والنهار أولا على التفصيل، وهذا هو اللف، ثم أردفهما بما هو مفهوم لليل من السكون، وما هو مفهوم للنهار من إبتغاء الفضل، وهذا هو النشر، والقارئ بفهمه يرد كل واحد إلى ما يليق به.
ومنه قول الشاعر:
أَلَسْتَ أنتَ الذي مِن وِرْدِ نِعمته **** ووِرْدِ راحته أجْنِي وأغتَرِفُ
وقد جمع هذا البيت مع حشمة الألفاظ بين جناس التحريف والاستعارة واللف والنشر
فانظر كيف ذكر ورد النعمة وورد الراحة على التفصيل، وهذا هو اللف أو الطي، ثم ذكر ما للنعمة وهو أجْنِي وما للراحة وهو أغترف وهذا هو النشر، وقد جاءت على الترتيب فالأول للأول، والثاني للثاني.
ومنه قول الشاعر أحمد المغربي:
إذا طال قرنٌ أو تَعَرَّضَ مارقٌ *** فهذا له قد وهذا له قط
فالقد: الشق طولاً، والقط: القطع عرضاً.
وقول حمدة ويقال حمدونة بنت زياد المؤدب وهي خنساء المغرب، شاعرة الأندلس، وهو من عجيب شعرها [من الطويل]:
ولمّا أبى الواشون إلاّ فِراقنا **** وليس لهم عندي وعندك من ثارِ
وشنُّوا على أسماعنا كل غارة **** وقَلَّ حُماتي عند ذاك وأنصاري
غزوناهم من مقلتيك وأدمعي **** وأنفاسنا بالماء والسيف والنار
فقولها: مقلتيك وأدمعي وأنفاسنا هذا لفّ، وقولها بالماء والسيف والنار هذا نشر، ولك أن تَرُدّ كل واحد إلى ما يليق به، وهي أيضا على الترتيب.
ومنه بين ثلاثة وثلاثة قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى :
عرج على حرم المحبوب منتصبا **** لقبلة الحسن واعذرني على سهري
وانظر إلى الخال فوق الخد تحت لمى **** تجد بلالا يراعي الصبح في السحر
فقوله: الخال، والخد و لمى هذا لفّ، وقوله: بلالا والصبح والسحر هذا نشر. فبلال للخال، والصبح للخد، والسحر للّمى.
ومنه بين أربعة وأربعة
ومثله قول شمس الدين بن العفيف رحمه الله تعالى
رأى جسدي والدمع والقلب والحشا **** فأضنى وأفنى واستمال وتيما
ولبعضهم بين عشرة وعشرة:
شعر جبين محيا معطف كفل **** صدغ فم وجنات ناظر ثغرُ
ليل صباح هلال بانة ونقا **** آس أقاح شقيق نرجس در
ــ والقسم الثاني: مِمّا ذُكر فيه المتعدد تفصيلاً، هو ما كان فيه النشر على غير ترتيب اللف، وهو إما أن يكون الأول من النشر للآخر من اللف، والثاني لما قبله، وهكذا على الترتيب، ويسمى معكوس الترتيب.
نحوقوله تعالى: (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب)
ذكر ابتغاء الفضل للثاني وهو النهار، وعلم الحساب للأول وهو الليل، على خلاف الترتيب
وكقول الشاعر:
ولحظُهُ ومحياهُ وقامته بدر الدُّجا وقضيبُ البان والراح
فبدر الدجا: راجع إلى «المُحيّا» الذي هو الوجه و «قضيب البان» راجع إلى «القامة» ، والراح راجع إلى اللحظ.»
وكقول ابن حيوس
كيف أسلو وأنت حقف وغصن **** وغزال لحظاً وقداً وردفا
فاللحظ للغزال، والقد للغصن، والردف للحقف، وهو النقا من الرمل،
فعدم الترتيب ظاهر في البيت،
والنوع الثاني :وهو ذكر المتعدد إجمالاً، قسم واحد، لا يتبين فيه ترتيب ولا عكس، مثاله قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى. فلف بين الفريقين إجمالاً في قوله: وقالوا، فإن الضمير فيه لليهود والنصارى، وإنما سوغه ثبوت العناد بين اليهود والنصارى، أو التضليل كل فريق صاحبه فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة، فوثق بالعقل في أنه يرد كل قول إلى فريقه لأمن اللبس.
ومنه قول طرفة بن العبد وهو بالطاء والراء المهملتين المفتوحتين. ومنهم من يقول: طرفة بضم الطاء المهملة. وهو تحريف بحت فاحذره:
فلولا ثلاث هن من لذة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنباً *** كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب *** ببهكنة تحت الخباء المعمد
الجد: السعد. وقوله: لم أحفل، أي لم أبال، والعود جمع عائد وهو الزائر في المرض، يعني لم أبال متى قام عودي من عندي آيسين من حياتي. والشربة هنا: الخمر، وكميت: فيها حمرة وبياض. وتعل: تمزج. وتزبد: تصير عليها رغوة، يريد أن يباكر شرب الخمر قبل إنتباه العواذل. والكرّ: العطف. والمضاف - بضم الميم وفتح الضاد المعجمة -: الذي أحيط به في الحرب. ومجنبا - بالجيم -: فرساً في رجله تجنيب، وهو إنحناء وتوتير مستحب في أرجل الخيل. والشيد: الذئب. والغضا: شجر. والمتورد: الذي صار لونه أحمر من دم الفرائس. والدجن: الباس الغيم آفاق السماء. والبهكنة: المرأة السمينة الناعمة. والمعمد: المرفوع بالعمد.
ومنه قول ابن سُكّرة في الكافات الشتائية: [من البسيط]
جاء الشتاء وعندي من حوائجه *** سَبْعٌ إذا القطر عن حاجاتنا حَبَسا
كنٌّ وكِيسٌ وكانونٌ وكأسُ طَلا *** مع الكباب وكُسٌّ ناعم وكِسا
فقد ذكر الكلّ على الإجمال دون عكس أو ترتيب.
تنبيه - قال الحافظ السيوطي في الإتقان: قد يكون الإجمال في النشر لا في اللف، بأن يؤتى بمتعدد، ثم بلفظ يشتمل على متعدد يصلح لها كقوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل. انتهى. فعلى هذا يكون ذكر المتعدد إجمالاً قسمين، أحدهما ما كان فيه الإجمال في اللف والثاني ما كأن فيه الإجمال في النشر، وإذا ثبت ذلك كانت الفذلكة أيضاً من القسم الإجمالي الذي وقع فيه الإجمال في النشر، لأنها عكس ما تقدم من الأمثلة لذكر المتعدد إجمالاً في الّلف. .
المصادر:
كتاب البديع في البديع لابن المعتز ت247ه
العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق القيرواني ت390ه
زهر الآداب للحصري القيرواني ت453ه
خزانة الأدب لابن حجة الحموي ت837ه
أنوار الربيع في أنواع البديع لابن معصوم الحسني ت1119ه
جمع وإعداد وتقديم: محمد أبورزق
يُتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق