اللغة العربية: إبداع وإمتاع وإقناع
علم البديع
دروس مهمة لكل شاعر وكاتب وأديب
الدرس الواحد والعشرون (21)
الإستعارة (تابع)
الجزء الثالث
واعلم أن لحسن الاستعارة شروطاً، أن لم تصادفها عريت من الحسن وربما اكتسيت قبحاً، فحسن كل من الاستعارة التحقيقية والتمثيلية، برعاية جهات حسن التشبيه. كأن يكون وجه الشبه شاملاً للطرفين، وافياً بما علق به من الغرض ونحو ذلك مما يذكر في باب التشبيه، وبأن لا تشم رائحة التشبيه من جهة اللفظ، لأنه يبطل الغرض من الاستعارة. أعني إدعاء دخول المستعار له في جنس المستعار منه، وإلحاقة به، لما في التشبيه من الدلالة على كون المستعار منه أقوى من المستعار له كما قيل:
ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك ... فقاعدة التشبيه نقصان ما يحكي
ولذلك يوصى أن يكون ما به المشابهة بين الطرفين جلياً بنفسه، أو بسبب عرف أو اصطلاح خاص لئلا يصير كل منها ألغازاً، كما لو قيل في التحقيقية: رأيت أسداً وأريد إنسان أبخر، وفي التمثيلية: رأيت إبلاً مائه لا توجد في راحلة. يريد أن المرضي المنتجب في عزة وجوده كالنجية التي لا توجد في كثير من الإبل. وهذا يظهر أن كلاً من التحقيقية والتمثيلية لا يجيئان في كل ما يجيء به التشبيه.
ومما يتصل بهذا أنه إذا قوي الشبه بين الطرفين بحيث صار الفرع كأنه الأصل، لم يحسن التشبيه وتعينت الاستعارة في ذلك، كالنور إذا شبه العلم به، والظلمة شبهت الشُّبْهة بها، فإذا فهمت مسألة تقول: حصل في قلبي نور ولا تقول كأن نوراً حصل في قلبي. وكذا إذا وقعت في شبهة تقول: وقعت في ظلمة، ولا تقول: كأني وقعت في ظلمة.
والاستعارة المكنى عنها كالتحقيقية، في أن حسنها برعاية حسن التشبيه لأنها تشبيه مضمر في النفس.
وأما التخيلية فحسنها بحسب حسن المكنى عنها، لأنها لا تكون إلا تابعة لها .
وهذه أمثلة للإستعارة من النثر والنظم
أولا النثر:
فمنه قول الحسن بن وهب: شربت البارحة على وجه السماء وعقد الثريا ونطاق الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما عقلت حتى لحقني قميص الشمس.
وقول الآخر: ولقد عرق بالندى جبين النسيم، وابتل جناح الهواء، وضربت خيمة الغمام، واغرورقت مقلة السماء، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق.
ومن بديع النثر في هذا النوع قول أبي القاسم عبد الصمد بن علي الطبري، يصف متنزهاً: لله متنزهنا والسماء زرقاء اللباس؛ والشمال ندية الأنفاس، والروض مخضل الأزار، والغيم منحل الأزرار، والجبال قد تركت نواصيها الثلوج شيباً، والصحارى قد لبست من نسيج الربيع برداً قشيبا. والكؤوس تدور بيننا بالرحيق، والأباريق تنهل مثل ذوب العقيق، وتفتر عن فار المسك وخد الشقيق. والجيوب تستغيث من أكف العشاق، وسقيط الطل يعبث بالأغصان عبث الدل بالغصون الرشاق والدن يجرح بالمبزال فتل الصائغ طرف الخلخال.
ثانيا النظم:
فمن محاسنه قول ابن خفاجة الأندلسي:
وقد جال من جون الغمامة أدهم *** له البرق سوط والشمال عنان
وضمخ ردع الشمس نحر حديقة *** عليه من الطل السقيط جمان
ونمت بأسرار الرياض خميلة *** لها النور ثغر والنسيم لسان
وقول ابن الساعاتي:
ولولا رواة بل وشاة تخرصوا *** أحاديث ليست في سماع ولا نقلِ
لثمنا ثغور النور في شنب الندى *** خلال جبين النهر في طرر الظل
وما ألطف قول أبي زكريا المغربي:
نام طفل النبت في حجر النعامى ***لاهتزاز الظل في مهد الخزامى
وسقى الوسمي أغصان النقا *** فهوت تلثم أفواه الندامى
كحل الفجر لهم جفن الدجى *** وغدا في وجهة الصبح لثاما
تحسب البدر محيا ثمل *** قد سقته راحة الصبح مداما
حول الزهر كؤوس قد غدت *** مسكة الليل عليهن ختاما
يا عليل الريح رفقاً علني *** أشف بالسقم الذي حزت سقاما
أبلغن شوقي غريباً باللوى *** همت في أرض بها حلواً غراما
فرشوا فيها من الدر حصى *** ضربوا فيها من المسك خياما
كنت أشفي غلة من صدكم *** لو أذنتم لجفوني أن تناما
واستعدت الروح من ريح الصبا *** لو أتت تحمل من سلمى سلاما
وقول ابن نباتة المصري:
ولما جنى طرفي رياض جمالكم *** جعلت سهادي في عقوبة من جنى
أأحبابنا أن عفتم السفح منزلا *** وأخليتم من جانب الجزع موطنا
فقد حزتموا دمعي عقيقاً ومهجتي *** غضاً وسكنتم من ضلوعي منحنى
وما أجود قول أبي طاهر البغدادي في نار القرى:
خطرت فكاد الورق تسجع فوقها *** إن الحمام لمغرم بالبانِ
من معشر نشروا على تاج الربى *** للطارقين ذوائب النيران
وقول القاضي تاج الدين المالكي:
طال المنام على أرجوحة الصغر *** وبالغ الشيب في التحذير بالنذرِ
وجيش ليل الصبا فرت كتيبته *** لما أتى جيش صبح الشيب بالتبر
فاغسل بدمعك جفناً بات مكتحلاً *** بنومه واكتحل من أثمد السهر
وانهض لتصقل مرآة البصيرة من *** غين الغشاء وما للذنب من أثر
إن الذنوب وإن جلت فإن لها *** إتيان ساحة طه سيد البشر
فشد حزم مطايا قصده وانخ *** ببابه والثم الأعتاب واعتفر
المصادر:
كتاب البديع في البديع لابن المعتز ت247ه
العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق القيرواني ت390ه
زهر الآداب للحصري القيرواني ت453ه
خزانة الأدب لابن حجة الحموي ت837ه
أنوار الربيع في أنواع البديع لابن معصوم الحسني ت1119ه
جمع وإعداد وتقديم: محمد أبورزق
يُتبع
علم البديع
دروس مهمة لكل شاعر وكاتب وأديب
الدرس الواحد والعشرون (21)
الإستعارة (تابع)
الجزء الثالث
واعلم أن لحسن الاستعارة شروطاً، أن لم تصادفها عريت من الحسن وربما اكتسيت قبحاً، فحسن كل من الاستعارة التحقيقية والتمثيلية، برعاية جهات حسن التشبيه. كأن يكون وجه الشبه شاملاً للطرفين، وافياً بما علق به من الغرض ونحو ذلك مما يذكر في باب التشبيه، وبأن لا تشم رائحة التشبيه من جهة اللفظ، لأنه يبطل الغرض من الاستعارة. أعني إدعاء دخول المستعار له في جنس المستعار منه، وإلحاقة به، لما في التشبيه من الدلالة على كون المستعار منه أقوى من المستعار له كما قيل:
ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك ... فقاعدة التشبيه نقصان ما يحكي
ولذلك يوصى أن يكون ما به المشابهة بين الطرفين جلياً بنفسه، أو بسبب عرف أو اصطلاح خاص لئلا يصير كل منها ألغازاً، كما لو قيل في التحقيقية: رأيت أسداً وأريد إنسان أبخر، وفي التمثيلية: رأيت إبلاً مائه لا توجد في راحلة. يريد أن المرضي المنتجب في عزة وجوده كالنجية التي لا توجد في كثير من الإبل. وهذا يظهر أن كلاً من التحقيقية والتمثيلية لا يجيئان في كل ما يجيء به التشبيه.
ومما يتصل بهذا أنه إذا قوي الشبه بين الطرفين بحيث صار الفرع كأنه الأصل، لم يحسن التشبيه وتعينت الاستعارة في ذلك، كالنور إذا شبه العلم به، والظلمة شبهت الشُّبْهة بها، فإذا فهمت مسألة تقول: حصل في قلبي نور ولا تقول كأن نوراً حصل في قلبي. وكذا إذا وقعت في شبهة تقول: وقعت في ظلمة، ولا تقول: كأني وقعت في ظلمة.
والاستعارة المكنى عنها كالتحقيقية، في أن حسنها برعاية حسن التشبيه لأنها تشبيه مضمر في النفس.
وأما التخيلية فحسنها بحسب حسن المكنى عنها، لأنها لا تكون إلا تابعة لها .
وهذه أمثلة للإستعارة من النثر والنظم
أولا النثر:
فمنه قول الحسن بن وهب: شربت البارحة على وجه السماء وعقد الثريا ونطاق الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما عقلت حتى لحقني قميص الشمس.
وقول الآخر: ولقد عرق بالندى جبين النسيم، وابتل جناح الهواء، وضربت خيمة الغمام، واغرورقت مقلة السماء، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق.
ومن بديع النثر في هذا النوع قول أبي القاسم عبد الصمد بن علي الطبري، يصف متنزهاً: لله متنزهنا والسماء زرقاء اللباس؛ والشمال ندية الأنفاس، والروض مخضل الأزار، والغيم منحل الأزرار، والجبال قد تركت نواصيها الثلوج شيباً، والصحارى قد لبست من نسيج الربيع برداً قشيبا. والكؤوس تدور بيننا بالرحيق، والأباريق تنهل مثل ذوب العقيق، وتفتر عن فار المسك وخد الشقيق. والجيوب تستغيث من أكف العشاق، وسقيط الطل يعبث بالأغصان عبث الدل بالغصون الرشاق والدن يجرح بالمبزال فتل الصائغ طرف الخلخال.
ثانيا النظم:
فمن محاسنه قول ابن خفاجة الأندلسي:
وقد جال من جون الغمامة أدهم *** له البرق سوط والشمال عنان
وضمخ ردع الشمس نحر حديقة *** عليه من الطل السقيط جمان
ونمت بأسرار الرياض خميلة *** لها النور ثغر والنسيم لسان
وقول ابن الساعاتي:
ولولا رواة بل وشاة تخرصوا *** أحاديث ليست في سماع ولا نقلِ
لثمنا ثغور النور في شنب الندى *** خلال جبين النهر في طرر الظل
وما ألطف قول أبي زكريا المغربي:
نام طفل النبت في حجر النعامى ***لاهتزاز الظل في مهد الخزامى
وسقى الوسمي أغصان النقا *** فهوت تلثم أفواه الندامى
كحل الفجر لهم جفن الدجى *** وغدا في وجهة الصبح لثاما
تحسب البدر محيا ثمل *** قد سقته راحة الصبح مداما
حول الزهر كؤوس قد غدت *** مسكة الليل عليهن ختاما
يا عليل الريح رفقاً علني *** أشف بالسقم الذي حزت سقاما
أبلغن شوقي غريباً باللوى *** همت في أرض بها حلواً غراما
فرشوا فيها من الدر حصى *** ضربوا فيها من المسك خياما
كنت أشفي غلة من صدكم *** لو أذنتم لجفوني أن تناما
واستعدت الروح من ريح الصبا *** لو أتت تحمل من سلمى سلاما
وقول ابن نباتة المصري:
ولما جنى طرفي رياض جمالكم *** جعلت سهادي في عقوبة من جنى
أأحبابنا أن عفتم السفح منزلا *** وأخليتم من جانب الجزع موطنا
فقد حزتموا دمعي عقيقاً ومهجتي *** غضاً وسكنتم من ضلوعي منحنى
وما أجود قول أبي طاهر البغدادي في نار القرى:
خطرت فكاد الورق تسجع فوقها *** إن الحمام لمغرم بالبانِ
من معشر نشروا على تاج الربى *** للطارقين ذوائب النيران
وقول القاضي تاج الدين المالكي:
طال المنام على أرجوحة الصغر *** وبالغ الشيب في التحذير بالنذرِ
وجيش ليل الصبا فرت كتيبته *** لما أتى جيش صبح الشيب بالتبر
فاغسل بدمعك جفناً بات مكتحلاً *** بنومه واكتحل من أثمد السهر
وانهض لتصقل مرآة البصيرة من *** غين الغشاء وما للذنب من أثر
إن الذنوب وإن جلت فإن لها *** إتيان ساحة طه سيد البشر
فشد حزم مطايا قصده وانخ *** ببابه والثم الأعتاب واعتفر
المصادر:
كتاب البديع في البديع لابن المعتز ت247ه
العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق القيرواني ت390ه
زهر الآداب للحصري القيرواني ت453ه
خزانة الأدب لابن حجة الحموي ت837ه
أنوار الربيع في أنواع البديع لابن معصوم الحسني ت1119ه
جمع وإعداد وتقديم: محمد أبورزق
يُتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق