السبت، 23 فبراير 2019

اللغة العربية إبداع وإمتاع وإقناع....الشاعر محمد أبو رزق

اللغة العربية: إبداع وإمتاع وإقناع
علم البديع
دروس مهمة لكل شاعر وكاتب وأديب
الدرس الثالث والعشرون (23)
[ الإستخدام ]

الإستخدام هو إستفعال من الخدمة، وأما في الإصطلاح فقد اختلفت العبارات في ذلك على طريقين:
 ــ الأولى: طريقة صاحب الإيضاح الشيخ جمال الدّين القزويني ومن تبعه ومشى عليها كثير من الناس، وهي أن الإستخدام إطلاق لفظ مشترك بين معنيين فتريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم تعيد عليه ضميرا تريد به المعنى الآخر أو تعيد عليه إن شئت ضميرين تريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر وعلى هذه الطريقة مشى أصحاب البديعيات والشيخ صفي الدين الحلي والشيخ عز الدين وهلم جرا
ــ الثانية: طريقة الشيخ بدر الدين بن مالك رحمه الله تعالى في المصباح وهي أن الإستخدام إطلاق لفظ مشترك بين معنيين ثم يأتي بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ومن الآخر المعنى الآخر ثم إن اللفظين قد يكونان متأخرين عن اللفظ المشترك وقد يكونان متقدمين وقد يكون اللفظ المشترك متوسطا بينهما والطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد وهو إستعمال المعنيين وهذا هو الفرق بين التورية والاستخدام فإن المراد من التورية هو أحد المعنيين وفي الاستخدام كل من المعنيين مراد.
ونقل الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والإستخدام ما يؤكد هذا فإنه قال المشترك إذا لزم إستعماله في مفهوميه معا فهو الإستخدام، وإن لزم في أحد مفهوميه في الظاهر مع لمح الآخر في الباطن فهو التورية.
وعلى كل تقدير فالطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد وهو إستعمال المعنيين بضمير وغير ضمير. وأعظم الشواهد على طريقة ابن مالك ومن تبعه قوله تعالى: ( لكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فإن لفظة كتاب يحتمل أن يراد بها الأجل المحتوم والكتاب المكتوب، وقد توسطت بين لفظتي أجل ويمحو فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد بقرينة ذكر الأجل واستخدمت المفهوم الآخر وهو الكتاب المكتوب بقرينة يمحو
وكقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أريد أولا بالشهر (الهلال) ثم أُعيد عليه الضمير أخيراً (فليصمه) بمعنى أيام رمضان..
ومنها وهي أظهرها قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) فإن المراد به آدم، ثم أعاد الضمير عليه مراداً به ولده، فقال (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) ومنها قوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم) ثم قال (قد سألها قوم من قبلكم) أي أشياء أخر، لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سأل عنها الصحابة فنهوا عن سؤالها.
ومنه قول الشيخ بدر الدين بن مالك من القصيدة النباتية التي يمدح فيها الشاعر جمال الدين ابن نباتة : [من البسيط]
حويتَ ريقاً نَباتيا حَلَا فغدا ... يَنظمُ الدُّرَّ عِقدا من ثناياك
فإن لفظة نباتيا تحتمل الاشتراك بالنسبة إلى السكر وإلى ابن نباتة الشاعر وقد توسطت بين الريق وحلاوته وبين الدر والنظم والعقد فاستخدمت أحد مفهوميها وهو السكر النباتي بذكر الريق والحلاوة واستخدمت المفهوم الآخر وهو قول الشاعر النباتي بذكر النظم والدر والعقد وليس في جانب من المفهومين إشكال
ــ وأما شاهد الضمائر على طريق صاحب الإيضاح، فجميع كتب المؤلفين لم يستشهدوا فيها على عود الضمير الواحد إلا بقول معاوية بن مالك : [من الوافر]
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
فلفظة السماء يراد بها المطر وهو أحد المعنيين والضمير في رعيناه يراد به المعنى الآخر وهو النبات
وأما شاهد الضميرين فإنهم لم يخرجوا به عن قول البحتري وهو: [من الكامل]
فسقَى الغَضا والسَّاكِنيه وإنْ هم ... شَبُّوه بين جوانحي وضلوعي
فإن لفظة الغضى محتملة إسم الموضع والشجر والسقيا صالحة لكل منهما فلما قال والساكنيه استعمل أحد معنيي اللفظة وهو الموضع بدلالة القرينة عليه ولما قال شبّوه استعمل المعنى الآخر وهو الشجر بدلالة القرينة عليه.
وما أحلى قول بعض المتأخرين مع عدم التعسف والسلامة من النقد وصحة الاشتراك الأصلي وهو: [من البسيط]
وللغزالة شيء من تَلَفُّتِه **** ونورُها من ضِيا خدَّيه مُكتسَب
أراد الشاعر: بضمير تلفّته الغزالة وهو الحيوان المعروف، وبضمير (نورها) الغزالة بمعنى الشمس
وهذا النوع أعني الاستخدام قلَّ من البلغاء من تكلفه وصح معه بشروطه لصعوبة مسلكه وشدة إلتباسه بالتورية، وهو أعلى رتبة عند علماء البديع من التورية، وأحلى موقعا في الأذواق السليمة ولكن قلّ من ظفر منه بسلامة التخلص من علق النقد وصعِد من غور التعسف إلى نجد السهولة. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى: فَضُّ الختام عن التورية والاستخدام : ومن أنواع البديع ما هو نادر الوقوع ملحق بالمستحيل الممنوع وهو نوع التورية والإستخدام الذي تقف الأفهام حسرى دون غايته عند مرامي المرام
نوع يشق على الغبي وجوده **** من أي باب جاء يغدو مقفلا
ومن إستخدام البديع قول ابن الوردي:
ورُبَّ غزالة طلعت **** بقلبي وهو مرعاها
نصبتُ لها شباكاً من **** نضارٍ ثم صدناها
وقالت لي وقد صرنا **** إلى عينٍ قصدناها
بذلت العين فأكحلها **** بطلعتها ومجراها
ففي البيت الأول إستخدام، وفي البيت الرابع أربع إستخدامات، ومعناها بذلت الذهب فأكحل عينك بطلعة عين الشمس، ومجرى العين من الماء، لأنه وطأ لهذه المعاني في الأبيات المتقدمة، وأتى بالبيت الرابع فتنزل جملة على ما تفصل.
قال الصفدي: وهذا أبلغ ما سمعته في الاستخدام. وما عرفت لغيره هذه العدة في هذا الوزن القصير، وهذا يدل على الفكر الصحيح والتخيل التام.
وقد جمع ابن مليك الحموي أيضاً أربع استخدامات في العين.
فقال في بيت واحد من مديح نبوي:
فكم رد من عين وجاد بنيلها **** ولولاه ما ضاءت ولم تك تعذبُ
ــ فمعنى ردّ من عين: يعني يقصد به أن الرّسول صلى الله عليه وسلم ردّ عين قتادة الصحابي بعد خروجها، ومعنى جاد بنيلها: أي بالمال والمال يسمى العين، ومعنى لولاه ما ضاءت: أي عين الشمس، ومعنى لم تك تعذب: أي عين الماء ــ .
وأما الأمثلة على طريقة بدر الدين بن مالك، فمنها قول أبي العلاء يصف درعا:
نثرة من ضمانها للقنا الخط **** ي عند اللقاء نثر الكعوبِ
مثل وشي الوليد لانت وإن كا **** نت من الصنع مثل وشي حبيب
تلك ماذية وما لذباب الص **** يف والسيف عندها من نصيب
فالذباب مشترك بين طرف السيف وبين الطائر المعروف، فلفظ السيف يخدم المعنى الأول، ولفظ الصيف يخدم المعنى الثاني. ومعنى ماذية أي من خالص الحديد وجيّده.
 وقول السراج الوراق:
دع الهوينا وانتصب واكتسب **** واكدح فنفس المرء كداحه
وكن عن الراحة في معزل **** فالصفع موجود مع الراحه
فالراحة تطلق على الاستراحة وعلى الكف، وقد تقدمها من القرائن ما يخدم المعنيين، فالانتصاب والكدح يخدم المعنى الأول، والصفح يخدم المعنى الثاني، ولا يخفى أن الطريقة الأولى أحسن موقعاً وألطف مورداً من هذه الطريقة، وقد تقدم أن أصحاب البديعيات إنما جروا على تلك الطريقة دون هذه.
وبيت عز الدين الموصلي: [من البسيط]
والعين قَرَّت بهم لما بها سمحوا **** واستخدموها من الأعدا فلم تنم
قوله والعين قرت بهم لما بها سمحوا في غاية الحسن فإنه أتى بالإستخدام وعود الضمير في شطر البيت مع الإنسجام والرقة واستخدامه في العين الناظرة وعين المال.
المصادر:
كتاب البديع في البديع لابن المعتز ت247ه
العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق القيرواني ت390ه
زهر الآداب للحصري القيرواني ت453ه
خزانة الأدب لابن حجة الحموي ت837ه
أنوار الربيع في أنواع البديع لابن معصوم الحسني ت1119ه
جمع وإعداد وتقديم: محمد أبورزق
يُتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق