اللغة العربية: إبداع وإمتاع وإقناع
علم البديع
دروس مهمة لكل شاعر وكاتب وأديب
الدرس الثامن عشر (19)
الإستعارة
الإستعارة فن يحتاج إلى كتاب كامل، وليس درسا واحدا أو عدة دروس نظرا لأهميتها، لذلك وحتى نستوعبها جيدا سأقسمها إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول
قالوا: زُوِّجَ المجازُ بالتشبيه فتولّد بينهما الاستعارة، فهي مجاز علاقته المشابهة.
إعلم أن الكلام في الاستعارة وأنواعها مما أطلق البيانيون فيه أعنة الأقلام، حتى أفردها بعضهم بالتأليف، وليس الغرض هنا استقصاء ذلك وإنما المقصود تقريبها إلى الإفهام، بتعريف يزيل عنها الإبهام، وذكر أقسامها باختصار، مع إثبات شيء مما وقع منها في محاسن النظم والنثر.
وقالوا في تعريفها: حقيقة الاستعارة، أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك إظهار الخفي، أو إيضاح الظاهر الذي ليس بجلي، أو حصول المبالغة أو المجموع. .
وأصل الإستعارة: تشبيه حُذِف أحد طرفيه، ووجه شبهه، وأداته.
وأركان الاستعارة ثلاثة:
مستعار منه، ومستعار له، ومستعار
مثل قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا)
فالنار مستعار منها والاشتعال مستعار والشيب مستعار له.
وأقسامها كثيرة
1) تتقسم باعتبار المستعار منه، والمستعار له، والوجه الجامع لهما إلى خمسة أقسام.
ــ الأول : إستعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، ومثاله:
قول الشاعر:
ووردُ جَنْيٍ طالعتنا خدودُه **** ببِشْرٍ ونَشْرٍ يبعثان على السُّكْرِ
فالمستعار منه الوجنات الحمر، والمستعار له ورق الورد، بجامع الحمرة والجميع محسوس.
ــ الثاني: إستعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي، وهي ألطف من الأولى، ومثاله قوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) فإن المستعار منه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسيان، والجامع لهما ما يعقل من ترتب أمر على آخر، وحصوله عقب حصوله كترتب ظهور اللحم على الكشط، وظهور الظلمة على كشف الضوء، والترتب أمر عقلي.
ــ الثالث: إستعارة معقول لمعقول بوجه عقلي. قيل: وهي ألطف الاستعارات ومثاله قوله تعالى: (من بعثنا من مرقدنا هذا) فإن المستعار منه الرقاد، والمستعار له الموت، والجامع بينهما عدم ظهور الفعل، والجميع عقلي.
ــ الرابع: إستعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي، ومثاله قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) فإن المستعار منه صدع الزجاجة، وهو كسرها وهي حسي، والمستعار له تبليغ الرسالة وهو عقلي، والجامع لهما التأثير وهو عقلي أيضاً.
ــ الخامس: إستعارة معقول لمحسوس بوجه عقلي، ومثاله قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء) فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي والمستعار منه الطغيان أو التكبر وهو عقلي، والجامع الاستعلاء المفرط وهو عقلي أيضاً.
2) وتنقسم باعتبار اللفظ إلى أصلية، وتبعية:
ــ إستعارة أصلية أن يكون اللفظ المستعار إسما جامدا غير مشتق، مثل قول الشاعر:
عضّنا الدهر بنابه .... ليت ما حلّ بنا به.
فقد شُبِّه الدهرُ بحيوانٍ مفترس، ثم حُذف المستعار منه ورُمز إليه بشيء من لوازمه وهو العضّ، والدهر إسم
ــ إستعارة تبعية: وهي ما كان اللفظ فيها إسما، أو فعلا، أوحرفا أو من المشتقات، مثل قوله تعالى : (فاصدعْ بما تؤمر) فإن المستعار منه صَدْعُ الزجاجة، وهو كسرها، والمستعار له تبليغ الرسالة.
3) وتنقسم باعتبار الطرفين إلى وفاقية وعنادية:
ــ الوفاقية هي: إجتماع الطرفين في شيء إن كان ممكناً نحو وأحيينا، في قوله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه) أي ضالاً فهديناه. استعير الإحياء وهو جعل الشيء حياً للهداية التي هي الدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب، والإحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء،
ــ والعنادية هي: إجتماع الطرفين في شيء ممتنع، وذلك كاستعارة المعدوم للموجود لانتفاء النفع به كما في المعدوم. ولا شك أن اجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع، وذلك كاستعارة اسم الميت للحي الجاهل، فإن الموت والحياة ممتنع اجتماعهما.
ومن العنادية التهكمية والتمليحية، وهما ما استعمل في ضد أو نقيض، نحو قوله تعالى: (فبشرهم بعذابٍ أليمٍ) أي أنذرهم. استعيرت البشارة التي هي الأخبار بما يسر، للإنذار الذي هو ضده، بإدخاله في جنسها على سبيل التهكم، وكذا قولك: رأيت أسداً، وأنت تريد جباناً على سبيل التمليح والطرافة.
4) وتنقسم باعتبار الجامع إلى:
1) عامّية: وهي القريبة المبتذلة التي لاكتها الألسن، فلا تحتاج إلى بحث: ويكون الجامع فيها ظاهراً، نحو: رأيت أسداً يرمى.
وكقول الشاعر:
وأدهم يسمتدّ الليل منه **** وتطلع بين عينيه الثُّريَّا
فقد استعار الثريا، لِغُرّة المهر، والجامع بين الطرفين ظاهر، وهو البياض.
2) خاصية : وهي الغريبة التي يكون الجامع فيها غامضاً، لا يُدركه إلا أصحاب المدارك (من الخواص) - كقول كثير يمدح عبد العزيز بن مروان
غَمْرُ الرِّداءِ إذا تبسّمَ ضاحكاً **** غلقت لضحكته رقابُ المال
غمر الرداء «كثير العطايا والمعروف» استعار الرداء للمعروف لأنه يصون ويستر عرض صاحبه، كستر الرِّداء ما يلقى عليه، واضاف إليه الغمر، وهو القرينة على عدم إرادة معنى الثوب: لأنّ الغمر من صفات المال، لا من صفات الثوب.
وهذه الاستعارة: لا يظفر باقتطاف ثمارها إلاّ ذووا الفطرة السليمة والخبرة التامة.
المصادر:
كتاب البديع في البديع لابن المعتز ت247ه
العمدة في محاسن الشعر لابن رشيق القيرواني ت390ه
زهر الآداب للحصري القيرواني ت453ه
خزانة الأدب لابن حجة الحموي ت837ه
أنوار الربيع في أنواع البديع لابن معصوم الحسني ت1119ه
جمع وإعداد وتقديم: محمد أبورزق
يُتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق