ملك الخفقان والحياة
كنت أنظر خلف نافذة غرفتي فرأيت السماء مقفهرة تقصف بوابل من الأمطار و كانت الرياح معولة موجعة لأغصان الشجر و كانت شجرة الصفصاف اليتيمة أمام نافذتي حزينة أبكاها المطر و ها هي ما تبقى من أوراقها الخريفية الصفراء الذابلة تتناثر راضية بالقدر لم تقو على البقاء فاضطرت للرحيل و السفر حتى الفانوس بجانبها لم يقدر أن يواسيها بضوئه الباهت الأصفر .
نحن لسنا كالأشجار و أوراقها هي تذبل فتموت و تندثر لتعود إلينا يانعة خضراء بعد السفر نحن البشر نموت و لا عودة بعد السفر و سيجازى كل امرئ بما قدمت يداه من خير أو شر أو ضرر .
هذا الصباح كنت مترددا في الخروج و الدفء قد ملآ حجرتي في يوم شتاء ماطر و رائحة الطعام تنبعث من القِدْر تغريني بالبقاء و فنجان القهوة يدعوني للارتشاف و الاستمتاع بالمذاق و صور الأحباب عبر الزمن و الأجيال المبعثرة على فراشي - من الذين طالتهم يد الموت و الذين ما زالوا على قيد الحياة – تدعوني لاستحلاب الذكريات : فهذه جدتي من زمن جميل ولّى و هذه صور العمات و الخالات وهذا أبي يحمل بين ذراعيه قطا يحنو عليه و هذا جدي يحمل فأسا بيده اليسرى و بأصابعه اليمنى يفتل شواربه شموخا و هذا عمي يحمل منجلا و حوله امتدت حقول القمح و الشعير بجمال السنبلات .
أَوَ يقدر المرء الخروج من متعة الدفء و الطعام الشهي و صور الذكريات و لا شيء يغريك خارج البيت سيدي الرئيس بالتجوال تحت المطر في مدينة اسمها جيجل تتكاثر و تتنامى فيها و تنبت الحفر أقبع في بيتك سيدي حتى يتوقف السيل و ينقطع المطر و تتضح الرؤية و تشرق الشمس لواحة للبشر لا تقلق علي سيدي فأنا رجل آخر تعودت السير على وقع المطر . أنا رجل من زمن الفحولة رماني إليكم القدر .
دائما أنا هكذا لا سلطان لي على ملك الخفقان و الحياة يملي عليّ في رقّة الخروج رغم المطر و الرياح المنفية بقوتها لأوراق الشجر .
لم أدر كيف خرجت رغم كلّ الأعذار و المغريات الشتائية الدافئة .
لم أكد أصل إلى آخر درجة في سلّم العمارة إلا و رأيتها تنتظرني رغم الأهوال و المثبطات و تدعوني للسفر صديقتي ذات الملاءة السوداء و الوشاح الأخضر .
هي الأخرى لا سلطان لي عليها فهي تأتمر بأوامر ملك الخفقان و الحياة ... و تسير بي مضيفتي رغم البرد و الصقيع و الحجب و الضبابية والعويل تحت سماء كل شيء فيها ينذر بالتوقف و الانتظار و الحذر ؛ و لكنها سارت كسيدة البلاط غير آبهة ماخرة للحواجز و المنعطفات و المنحدر و فجأة تتوقف إلى اليمين و هذا ما كنت أخافه دائما لأن اليمين في حياتي كان يتعبني و يضطرني للبحث و الانتقال من مكان إلى مكان آخر و مكتوب علي و دائما أن أحبتي يسكنون اليمين فيتعبون قلبي بانتقاله من اليسار إلى اليمين و صدق حدسي لأن دليلي وجّهني إلى سلالم إلى اليمين إلى الطابق الثاني فعرفت هذه المرة و ككل المرات أن أحبابي يسكنون اليمين و هكذا دائما يتعبني اليمين .
و أنا أعيش غمرة لحظات الانتظار داخل عمارة صندوق الضمان الاجتماعي رأيت موظفا صابرا على مواطن فقد صبره لأن أوراق الملفات أنهكت حياته فأخذ يلوم و يخاصم و الموظف برقيّ أخلاقه يوجهه إلى من يقومون بخدمته ، و رأيت سيدة تعمل بنشاط و لكن بصمت لا ترفع رأسها لمن وقف أمامها لأنها لا تفرق بين هذا و ذاك و كل مواطن عندها له حق الاحترام و الامتياز ؛ رأيتها تقدم الخدمات و تصبر عن الزلاّت .
تقدمت في الرواق قليلا فسمعت صوتا خفيفا منبعثا من أحد المكاتب ينمّ عن رقي صاحبه يقول لي : تفضل أستاذ و هذا موظف آخر من بلادي صديقي مراد بوعافية في قمة الأخلاق و المعاملة الراقية استلطف المواطنين فأحبوه رأيته لا يكتفي بأن تُقَدَّمَ له الوثائق و الأوراق إنما كان يحاول جاهدا تقريب وجهات النظر بين المتنازعين و مخففا من أضرار الأطراف الذين أنهكتهم دروب الحياة .
ليس كل الإدارات يا سادتي فاسدة تائهة في العبث و الوصولية و سفاسف الأمور و صغائر الأشياء و الدونية و تفاهة الحياة
إنما رأيت اليوم ما يشرف هذا الوطن و من أبنائه في خدمة السادة و السيدات و رأيت من المواطنين ما يزعجهم من ثقل الظروف و عبء الحياة و السير تائهين في الأروقة و الطرقات لاستكمال ملف أو استخراج آخر الورقات ... و فجأة يطل القمر مبتسما أو رأيتم سادتي قمرا يبتسم في الظلمات ، ثابت الخطوات تلمس فيه رائحة النبل و الصدق و التسامح و عفوية الخدمات ، خُيِّل إلى و هو يستقبلني أنني أزور فصل الربيع في مطير أيام الشتاء لأنه طلق المحيا بشوش الوجه ضاحك القسمات .
ما من مار عليه إلاّ و يبادره بالتحية و يسأله أو يطلب منه خدمة فيرد على الجميع مبتسما دون تمييز و قد وجّه هذا أو ردّ على سؤال هذا أو قضى مصلحة هذا ...
رأيت العربية تنبع من شفتيه ماء عذبا زلالا جميلة سلسة تكسبه الحرية في الكلام و تهديك جودة الفهم و متعة الاستماع إليه ...يحدثني في غير تخصصه فيمتع و يفاجئني بالحديث عن الأساتذة الذين درّسوني و يستحضر أستاذي الرائع في نظرية الأدب الدكتور شكري عزيز الماضي و نظرية الأدب و محاكاة المحاكاة لأفلاطون .
وجدته يحدثني عن أستاذي الشاعر الفلسطيني هوميروس العرب عزالدين المناصرة
إنه صديقي الذي تعجز الكلمات عن وصف خصاله و الذي لم يعد بعد الآن افتراضيا و إنما وجدت نفسي أضمه لقائمة أحبابي القدامى و قد جاد الزمان علي به فالتقينا .
إنه صديقي الأستاذ الفاضل الزواوي بونويوة
هؤلاء هم أصدقائي ينشرون محبتهم في ثنايا الوجود و ينثرون عبق أخلاقهم حيث ما حلّوا أو عملوا و قد تعدّت فضائلهم الآفاق و الحدود ... دليلهم الحق و الخير و الجمال
تحية عرفان لكل موظفي صندوق الضمان الاجتماعي الذين يؤمنون أن خدمة المواطن رسالة نبيلة في حياتهم
و تحية عطرة لكل أصدقائي في الفضاء الأزرق الذين يعطرون صفحتي بمودتهم و منشوراتهم الراقية ...
الأستاذ عبد الحكيم فارح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق