من كتابي ( ومضات نورانية من حياة سيد البشرية )
الحلقة الثامنة
× فى بيت الزوجية :
كان محمد يكن كل الحب لخديجة التى تحمل له كل معانى الرجولة والجمال، أعطته خديجة قيادها طائعة مطيعة ! وزاد وضعه إشراقا فى مكة فقد أغناه الله بهذا الزواج وكان أهل مكة ينظرون إليه نظرة غبطة وإكبار، وكان فى شغل عن نظراتهم بما أسبغه الله عليه من فضله وبما يبشره به خصب خديجة من عقب صالح ، لكن ذلك لم يصرفه عن الاختلاط بهم والأخذ معهم بنصيب فى الحياة العامة على ما كان يفعل من قبل بل زاده جاهاً بينهم ومكانه فزاد تواضعاً على جم تواضعه .
فقد كان على عظيم ذكائه حسن الإصغاء إلى محدثه! لا يلوى عن أحد وجهه ويلتفت إليه بكل جسمه !وكان قليل الكلام كثير الإنصات! ميالاً للجد من القول ولا يقول إلا حقاً واسع الصدر وهذه الصفات فيه تجعل من رآه و خالطه يحبه كما أحبه أبوبكر .
بدأ محمد بن عبد الله مع خديجة بنت خويلد صفحة جديدة من صفحات الحياة فبادلها من جانبه حب شاب فى الخامسة والعشرين لم يعرف الحب الأهوج الذى يبدأ كالشعلة المتوهجة لينطفىء بعد ذلك سراجه! فرزقه الله منها الولد القاسم الذى لقب به وعبد الله الذى لحق بجده الذى سمى باسمه ، فلما مات الولد تألمت خديجة لأجله، ولكن محمد الزوج الوحيد اليتيم سارع بنفسه ليواسيها ويخفف عنها! فهى تعلم أنه يتيم يتمنى الولد ليشد من أزره وليخلد ذكراه من بعده ولكنه هو الذى واساها بكل ما يملك من حب وعاطفة وحنان! ثم أنجبت له بنتاً سماها زينب ثم تبعتها بثلاث أخريات أكمل تسميتهن رقية وأم كلثوم وختمهن بفاطمة ! فى وقت كان وأد البنات شرعاً معمولاً به ولكن محمد صاحب العقل الكبير والفكر الناضج والقلب الرحيم فرح ببناته أكثر من فرح القرشيين بأولادهم ! ليضرب لقريش المثل والقدوة العملية! فهو اليتيم بلا أخ أو أخت ينجب أربعاً من البنات وتظهر على وجهه الجميل علامات الرضا والشكر للوهاب !ويتعلق بزوجته الكاملة أكثر من ذى قبل! ولم يفكر يوماً أن يتزوج بأخرى لتنجب له الولد ولو فعل ما لامه أحد من أهلها أو أهله!ولكنه لم يفعل ولم ينذر نذراً لو جاء له الولد بل حمد الله وكأنه فى برج سامق وأهل مكة دونه بقرون .
× أشرف انسان وأشرف حجر :
نذر عبد المطلب نذراً فأصبح ابنه عبد الله أول عربى يفدى بمائة ناقة ! وهاجم الأحباش الكعبة بفيلهم فسمى أهل مكة العام بعام الفيل فولد فيه محمد بن عبد الله ! وتأخرت حليمة فأخذت الطفل اليتيم محمد لتعرف أنه مبارك! وماتت أمه فكفله جده ليصبح ابن عبد المطلب! ومات جده فكفله عمه أبوطالب حتى وضعه على طريق التجارة فتزوج خديجة بنت خويلد التى حلم كبار رجالات مكة بها ! ولم يقف القدر عند هذه الأشياء الجليلة بل كانت الأحداث تتفاعل بطريقة عجيبة !.
تأثرت مكة بالسيول وتصدعت جدران الكعبة فتشاور كبار رجالات مكة واستقر رأيهم على هدمها وإعادة بنائها ومهما تكن صحة الروايات التى تشير إلى الحية العظيمة التى كانت تحول دون إتمام هدمها أوعدم صحتها فإن العقل لا يقف أمام هذه الروايات ولكنه يقف أمام كلمة أحد رجالات مكة الكبار عندما استقر الرأى على هدم الكعبة وإعادة بنائها :
" لا يساهم أحد بمال من ربا أو مال حرام ! لا يساهم إلا بمال مصدره حلال ليس فيه شبهه لا من قريب أو بعيد ! ".
قمة تناقض الانسان ! لا يتورعون عن الظلم وأكل الضعيف ! ولا يترفعون عن الزنا بجميع ألوانه ومسمياته ! ولا يقلعون عن شرب الخمر والتقاسم بالأزلام ثم ينادى أحد كبرائهم على اقتصار المساهمة بالمال الحلال فى بناء الكعبة! لأنهم يدركون أن هذا البيت المعظم ليس بيت قيصر أو كسرى أو نجاشى بل هو بيت الله الحرام .
هذا الفكر المتقدم عند إعادة بناء بيت الله الحرام ليس موجوداً الآن بعد عشرات القرون من هذا الحدث عند كثير من المسلمين عند بناء المساجد!.
أتموا البناء من أموالهم الحلال البعيدة عن كل ضروب الربا والميسر والظلم !وارتفعت جدران الكعبة وأكملوا السقف ولم يعد هناك غير حجر واحد يحمل من الأرض ويوضع مكانه فى جدار الكعبة .
حجر لا يضر ولا ينفع! والكعبة بنيت من الأحجار أيضاً وتهدمت وأعيد بناؤها ولكن هذا الحجر يحتفظ بسره الكبير! فهو ليس كالأحجار التى يقفون عليها بأقدامهم أو يجلسون عليها لقد توارثوا تعظيم هذا الحجر مثلما توارثوا تعظيم البيت الحرام .
لقد اشترطوا المال الحلال لبناء الكعبة فكيف سيضعون هذا الحجر مكانه فى جدار الكعبة وهو الشرف الكبير ؟!.
تنازعوا فيما بينهم على من يشرف برفع الحجر من الأرض ووضعه مكانه فى جدار الكعبة وكاد النزاع يتحول إلى قتال! ولم لا ؟! فقد تقاتلت القبائل بسبب فرس سبقت أخرى! فما بالك وهو حجر شريف ؟!.
عادت الحكمة إليهم مرة أخرى ليتفقوا فيما بينهم أن يرفع الحجر أول من يدخل عليهم أو يحكم فى هذا الأمر ؟! تركوا الأمر كله لله عالم الغيب والشهادة .
عندما يشتد الحال نجد محمداً فى الطريق بدون ترتيب ! دخل محمد فارتضوه حكماً فهو الصادق الأمين! وقف الشاب أمام كبار قريش ليحل لهم لغزاً كادوا يقتتلون لأجله! فطرح رداءه على الأرض وحمل الحجر بيديه ووضعه وسط الرداء وطلب منهم أن يساهموا فى حمل الرداء حتى الجدار فحمله مرة أخرى ووضعه مكانه وتهلل وجه الجميع !فقد أتموا بناء الكعبة بلا قتال ورفع أشرف انسان أشرف حجر أمام أعين الجميع وبكامل إرادتهم بل وبرضاهم التام !.
هذا الحدث العابر فى حياة محمد له من المعانى الكبيرة ! فقد أتم القرشيون بناء الكعبة من المال الحلال الطاهر وأنفقوا بسخاء ووقفوا عند الحجر الأسود فأرادت العناية الإلهية أن تكون اليد التى تضع الحجر يداً طاهرة وجسداً طاهراً ونفساً طاهرة نقية! لو بحثوا يومها بين أهل مكة شبابها ورجالها وكهولها ما وجدوا شخصاً يحمل كل هذه الصفات دفعة واحدة سوى محمد بن عبد الله ووقتها كانت ستتقاتل القبائل لماذا محمد بن عبد الله دون سواه ؟!.
ولكنها الأقدار ترسم خطاها بدقة متناهية فقد أتاهم ورفع بيده الطاهرة الحجر الطاهر ليتم بناء البيت الطاهر فى البقعة الطاهرة المباركة .
الكتاب: ومضات نورانية من حياة سيد البشرية
الكاتب: محمد فؤاد ابو بطه
الطبعة: الأولي 2009
رقم الإيداع:2009/7680
الترقيم الدولي:3-6857-17-977
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق