الخميس، 15 أبريل 2021

المطرود......سيادة العزومى

المطرود 
سياده العزومي سقراطة الشرق 

الحلقة الأولي والثانية 

أستمطرُ الذكريات حديثًا وحدثًا، وأخذ بيدي واتخذ خطواتٍ عدة إلى الوراء، أوقفني بين يدي حالة، داخل لجنة آخر العام للصف الثالث الإعدادي لمادة العلوم، المُلاحظ مستيقظ الإدراك بعينٍ أرهقها ذهابًا وإيابًا، يمينًا ويسارًا، أعلى وأسفل؛ خشيةً أن يغشّ أحدهم،  فيحمل وزرًا عظيمًا، يقف ويديه خلف ظهره، ساندًا بها على السبورة، وأسفلها إحدى قدميه يسندها إلى الحائط.. المطرود وطالبان وطالبتان يجلسون، وكأن على رؤوسهم الطير في صمتٍ تمدد داخلهم وملأ المكان، ينظر بعضهم إلى بعضٍ أكثر من نظرهم  في ورقة الإجابة، الحيرة فاضت من جوانب نظراتهم، لِعِلتِها، نطق الملاحظ قائلًا:
-عدم معرفة إجابة أي سؤال يؤكد أن الحل الوحيد أن يكتب الجميع أنه
لم يأتِ إليكم معلم علومٍ طوال العام الدراسي.
عاد وأعادني معه، وما لبث إلا أن ارتعشت المشاعر على وجهه، وتجمعت الدموع في مقلتيه، وتلونتْ بلون الشُّعب المرجانية، قائلًا:
دَقَّ الملاحظ الناصح أول وتد المصاعب في حياتنا، لقد رسبنا جميعًا، وكان رسوبنا كفيلًا لتسربنا وترْك طريق العلم بلا رجعة، لم يكن المتوقع أن يكون أحدنا طبيبًا يخطئ في التشخيص أو في إجراء إحدى العمليات الجراحية، فتكون النتيجة إزهاق إحدى النفوس البشرية، أو يكون أحدنا مهندسًا إنشائيًّا يخطئ في تصميم إحدى العمارات، فتسقط فوق رؤوس قاطنيها، أو مستشارًا يخالف القانون فيعمّ الفساد، بل كان أقصى أملٍ تنتجه مخاض العملية التعليمية لنا أن نحصل على دبلوم، ويكون الجيش عامًا ونصف بدلًا من  ثلاث أعوامٍ، أما البنات فيؤجَّل زواجهن حتى سن الثامنة عشرة، وتؤجَّل معها بداية مأساة الحياة الزوجية وفشلها وطلاقهن، إنها النصيحة الهالكة، ولا أحد يعرف ذنبنا مـَنْ يتحمله؟ وعلى عاتق مَنْ يقع في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون؟!.. المُلاحظ أم موجه المادة والإدارة التعليمية أم معلم المادة الذي استغل بُعد البلدة عن الإدارة، وعدم وجود رقيبٍ عليه، بعدما مات وتحلل الضمير بداخله والخوف من الله، قد تسرب الجميع، أنا "المطرود"، البلطجي، الفلاح.. وأم الأولاد..
بعدما تركتُ المدرسة، اشترى والدي جَرَّارًا زراعيًّا، أخبر الكل أنه مِلكٌ لي، رفرفت السعادة في أجواء قلبي الوليد، استنشقت عطرها، وأذابت جبال الأحزان بداخلي تحسرًا على تسربي من التعليم ، تعرفتُ على كل قطعة في جراري، امتطيتُ جواده، وَرَمَحَ  في قلبي، ورمحتُ به، كنت ابن السادسة عشرة من عمري تقريبًا، لأب من الجنوب الجاف القاحل، ركب قطار الهجرة الداخلية هاربًا من جفاء الجنوب وقسوته تاركًا زوجته ابنة عمه، بعدما انجب منها ابنةً وحيدة بعد أعوامٍ عدة، تركهما وترك ما يملك، ورحل إلى الوجه البحري يدق أبواب الرزق فيه باحثًا عن حياةٍ أفضل وظروف بيئة أحسن، تزوج من إحدى نسائه، أنجب منها ولدًا وحيدًا وثلاث بناتٍ، اهتمت الأم بتعليمهم، تخرج الابن في كلية الهندسة، وأكرمه الله بالعمل بإحدى الدول الأجنبية ونال رضا مديريه، وأخذ مكانةً كبيرة في العمل، لكن لم يتغير تفكير دم أبي "حُب البنين"؛ إنه ميراث السنين للنفس البشرية وعاداتها وتقاليدها، غَيَّرَ أبي عتبته وتزوج  للمرة الثالثة من نفس عائلته، أنجبت أمي  ثمانيةً من البنين، شقيقان أكبر مني وخمسة أصغر، وبذلك جلست أمي في قلب روح أبي وتحكمت، رقصت له الدنيا، ولكن لم يدم رقصها طويلًا، لقد صُعِق بوفاة أخي الأكبر المهندس رفيق عمره، ومنذ وفاته، لبس أبي ثوب الحزن والهمّ، راح يلملم أطراف أيام حياته معلنًا الرحيل، فتح حقائب الذكريات والأسرار المغلقة أمام الجميع، عاش لحظات يومه في أمسه، حتى الغد القريب والبعيد ملأه بالأمس، لم يكن أخي المهندس ابنًا لوالدي بل كان رفيق دربه وصاحبه وخليله وذراعه الأيمن،  كان بارًا به، طلبات أبي أوامر ومُقدَّمة قبل بناته وزوجته، تعلمتُ منه كيف أكسب رضاه، من الصور العالقة في مخيلتي ولا تفارق وجدان فكري، كان إذا أراد مناقشة والدي في موضوعٍ ما لا يناقشه جالسًا أبدًا، كان يقف بين يديه؛ احترامًا له، وكان لأبي الحظ العظيم في نفسه وماله فكان تطبيقًا واقعيًّا صادقًا للحكمة القائلة:
"أنت ومالَكَ لأبيك"
وعندما توفي، تنازل والدي لزوجته وبناته عن حقه في الميراث، في حين رفضت أمه التنازل عن حقها في الميراث، وكان قرارها بذور كراهيةٍ زرعتها أرملته في نفوس بناته، نَمَتْ مع الأيام وأثمرت ثمار الحنظل تجني الجدة ثمارها كل وقتٍ وحين، وبعد عامٍ وبضعة أشهر سبح فيها والدي في بحور الحزن، واقتات آلام الفراق، وتجرَّع العجز، وتنفس الحسرة، لحق بابنه البار ليتركني لشقيقي الأكبر.
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق